لم تكن حرب السويس فصلًا أُغلق في خريف 1956، ولا مواجهة عسكرية انتهت بتوقف المدافع وعودة الجيوش إلى ثكناتها، بل كانت بداية صراع طويل على معنى الاستقلال ذاته، وعلى من يملك حق تعريف النصر والهزيمة في التاريخ المصري الحديث.
ومنذ تلك اللحظة، لم تعد المعركة تُخاض بالسلاح وحده، بل بالرواية، وبالذاكرة، وبإعادة صياغة الوقائع على نحو يُفرغها من دلالتها.
اعتادوا أن يختصروا حرب السويس في معادلة مريحة وكسولة: هزيمة عسكرية ونصر سياسي.
ثم لا يكتفون بالاختصار، بل يعيدون توزيع عناصره على نحو يُبقي الهزيمة العسكرية باعتبارها حقيقة ثابتة، ويسحب ورقة النصر السياسي من اليد المصرية ليضعها في كفة الإنذار السوفيتي أولًا، والتحرك الأمريكي ثانيًا، باعتبارهما العاملين الحاسمين في وقف الحرب وإفشال العدوان.
وحين يُطرح السؤال البسيط: ماذا بقي إذن للجانب المعتدى عليه؟ يأتينا الجواب الجاهز من خبراء الهزيمة: لا شيء.
مصر، في هذا السرد، طرف مهزوم، وحرب 1956 ليست سوى حلقة أولى في سلسلة حروب فاشلة خاضها جمال عبد الناصر، بدأت بنكسة السويس، مرورًا بـ«كارثة» اليمن، وانتهت بهزيمة 1967.
لكن هل هذا هو التاريخ؟ وهل هكذا تُقرأ الوقائع؟
والأهم: لماذا يُصرّ هؤلاء على إعادة كتابة صفحة مفصلية من تاريخنا الوطني بهذا القدر من الانتقائية، طمسًا للحقائق، وتجاهلًا لما اعترف به الأعداء قبل الأصدقاء؟
أين موقع المقاومة الشعبية التي انفجرت في بورسعيد ومدن القناة؟ وأين دور القوات المسلحة المصرية في إدارة المعركة؟ وأين التأييد العربي الواسع الذي واكب التهديد بالعدوان وظل مشتعلًا في أيام الحرب؟
ثم كيف انتهت جوائز الحرب الرئيسية – السياسية والاقتصادية والمعنوية – في يد مصر إذا كانت الهزيمة شاملة؟
لن تجد إجابة مقنعة عن هذه الأسئلة في هذا الخطاب التبسيطي.
لأن ما يجري في الحقيقة ليس قراءة للتاريخ، بل اجتراء مقصود، وتزوير ناعم لوقائع ما جرى على الأرض، وعدوان مستمر على واحدة من أهم صفحات تاريخنا الوطني، وكأن الحرب لم تنتهِ يوم توقفت المدافع، بل استمرت بالرواية والتأويل.
وهذه هي عناوين القصة كما جرت.
أول العناوين هو : لماذا كان عبد الناصر هو الهدف؟
في 31 أكتوبر 1956 تعرضت مصر لعدوان ثلاثي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. لم يكن العدوان رد فعل عابرًا على قرار تأميم قناة السويس، بل ذروة صراع طويل مع مشروع تحرري أخذ يتشكل في المنطقة، وكانت شخصية جمال عبد الناصر – لا القناة وحدها – هي العنوان الحقيقي لهذا الصراع.
مع بدايات عام 1956 كانت المنطقة تمور بتغيرات عميقة.
في الأول من مارس زار سلوين لويد، وزير الخارجية البريطاني، القاهرة، والتقى عبد الناصر. تحدث لويد عن قناة السويس باعتبارها جزءًا من مجمع بترول الشرق الأوسط، و«وريد الدورة الدموية للطاقة في العالم».
فجاءه الرد هادئًا وحاسمًا: الدول العربية المنتجة للبترول تحصل على خمسين في المئة من أرباحه، بينما لا تحصل مصر إلا على خمسة في المئة من أرباح القناة. لماذا لا تُعامل مصر معاملة الدول المنتجة؟
في تلك اللحظة، أيقنت لندن أن عبد الناصر لم يعد مجرد زعيم وطني مزعج، بل خطر استراتيجي على نظام النفوذ البريطاني في المنطقة.
في اليوم نفسه، أعلن الملك حسين قراره بطرد الجنرال جلوب باشا، القائد البريطاني للجيش الأردني منذ سبعة عشر عامًا. رأت لندن في القرار صفعة مباشرة، واشتبه أن عبد الناصر يقف وراءها.
كتب أنطوني إيدن إلى الملك حسين مطالبًا بالتراجع، لكن موقف الضباط الأحرار في الأردن، والتأييد الشعبي، حالا دون ذلك.
ومنذ تلك اللحظة، ترسخت لدى إيدن قناعة عبّر عنها صراحة أمام معاونيه: «ناصر هو عدونا الأول في الشرق الأوسط، ولن يستريح حتى يقضي على كل نفوذنا فيه»، وكان ذلك إعلان نوايا مبكرًا.
فرنسا وإسرائيل: خصومتان تلتقيان
على الجانب الفرنسي، كانت باريس تخوض حربها القذرة في الجزائر، وترى في دعم مصر للثورة الجزائرية تهديدًا مباشرًا لإمبراطوريتها الآفلة.
أرسل كريستيان بينو، وزير الخارجية الفرنسي، إلى القاهرة في مارس 1956 عارضًا صفقة فجة: تتخلى مصر عن دعم الجزائريين، وتدعم فرنسا العرب سياسيًا.
جاء الرد حاسمًا: التخلي عن الجزائريين هو تخلي عن القومية العربية نفسها.
غادر بينو القاهرة مقتنعًا أن عبد الناصر عقبة لا بد من إزالتها.
أما إسرائيل، فكانت قد استنفدت أغراض الغارات المتكررة على قطاع غزة، وبدأت تفكر في «حرب وقائية» ضد مصر، خاصة بعد صفقة السلاح التشيكية التي كسرت احتكار الغرب لتسليح المنطقة.
لكنها كانت بحاجة إلى مظلة سياسية وعسكرية، وإلى مبرر دولي، وهو ما لم يكن متاحًا دون اشتراك القوى الاستعمارية الكبرى.
أمريكا تدخل على الخط.
ظلت بريطانيا تحاول استمالة الولايات المتحدة إلى رؤيتها بضرورة كبح عبد الناصر، بينما سعت في الوقت نفسه إلى تهدئة الأجواء ظاهريًا مع مصر، فقررت تقديم موعد الجلاء عن قاعدة القناة.
وفي 13 يونيو 1956 غادرت آخر القوات البريطانية، وسلم قائدها مفاتيح القاعدة، ونرأس عبد الناصر احتفال الجلاء.
ثم جاءت اللحظة الفاصلة في 19 يوليو، حين أبلغ جون فوستر دالاس السفير المصري بسحب العرض الأمريكي لتمويل السد العالي. لم يكن الرفض وحده هو الصادم، بل البيان العلني الذي تبعه، والذي شكك في قدرة الشعب المصري على تحمل المشروع، وأضاف إلى الرفض إهانة سياسية مقصودة.
قال عبد الناصر لاحقًا: «لم يكتفوا بالرفض، بل أضافوا إليه الإهانة». وفي مساء 26 يوليو، بينما كان أنطوني إيدن يتفاخر أمام ضيوفه بأن الأمريكيين «رأوا الضوء أخيرًا»، وصلته البرقية الصادمة: عبد الناصر أعلن تأميم شركة قناة السويس.
منذ تلك اللحظة، بدأت ساعة العد التنازلي.
وتحركت قوى الاستعمار القديم في التحرك وبناء مخطط ثلاثي كُتبت بنوده في الظل.على عكس ما بدا في العلن، كانت الاتصالات السرية تتسارع.
في فيلا صغيرة بضاحية "سيفر" قرب باريس، اجتمع ممثلو بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، ووقعوا بروتوكول العدوان: تبدأ إسرائيل الهجوم، ثم تتدخل بريطانيا وفرنسا بذريعة حماية القناة، ويُعاد احتلالها، ويُفرض نظام دولي جديد، ويُزال النظام المصري القائم.
ظل الاتفاق سريًا لعشرين عامًا، حتى كشفه موشي ديان، ثم أكده الفرنسيون لاحقًا. وكان فاضحًا بما يكفي ليسقط أي ادعاء أخلاقي عن العدوان.
ومن هنا، لا تبدو حرب السويس حدثًا من الماضي، بل معركة مفتوحة لم يُغلق ملفها بعد.
وجرت وقائع العدوان الثلاثي وقررت مصر مواجهته، وأعلن عبد الناصر من فوق منبر الأزهر سنفاتل سنفاتل سنفاتل.
وانتصرت إرادة القتال.
وانتقلت من بعد معركة السويس إلى معركة الذاكرة..
لم تكن حرب السويس معركة على قناة، بل معركة على معنى التحرر والاستقلال والإرادة الوطنية نفسها. ولهذا لم تنتهِ.
انتقلت المعركة غبر الزمن من الميدان إلى الوعي، ومن السلاح إلى الرواية، ومن محاولة إسقاط نظام إلى محاولة تفريغ تجربة كاملة من دلالتها.
الدولة المصرية التي خرجت من 1956 لم تكن هي نفسها قبلها. امتلكت قرارها، وسيطرت على موردها السيادي، وفرضت نفسها لاعبًا لا تابعًا.
وحين تعثّر المسار لاحقًا، لم يكن ذلك إلغاءً لتلك اللحظة، بل جزءًا من صراع أطول لم يُحسم.
الهجوم المستمر والمتصاعد على حرب السويس ليس مراجعة بريئة، بل جزء من معركة مستمرة على تعريف مصر: هل تكون دولة مشروع وإرادة، أم دولة وظيفة وحدود؟
تلك هي المسألة. وهذا هو المعنى على حقيقته.
حرب السويس لم تنتهِ، لأنها لم تكن حربًا على الماضي، بل على المستقبل.
-------------------------
بقلم: محمد حماد






